باردايم الأعوام

ها نحن نقف وقد ودعنا بالأمسِ عاماً من أعمارِنا.

عامٌ أخذ منا وأخذنا منه، وها هو يغيب عنا بكل تفاصيلِه وألوانه، فلم يتبق لنا منه إلا الذكرى بحلوها ومُرها، ومع ذلك لازلنا نترقب بشوقٍ وفضول، ونتحرى كشف هذا القادم الجديد على حياتنا، نحلل كل التفاصيل ونُخمن الأحداث من حولنا، لكي نصدر الحكم والقضاء في كونه وكِنهِ، فهل يا ترى يستحق أن نطرح على طاولته خُططنا وأهدافنا المستقبلية؟!

أم أنه سيخذلنا ويطوي معه كل خططنا وأحلامنا كما فعل سابقه؟!

.هذه الفكرة هي ماتجعلنا نتردد ونثاقل الخطى، في السير نحو المستقبل والأعوام،لقد أُتعِبنا بالتردد والخوف حتى سقمت وسأمت أهدافنا وأحلامنا، من تعلقنا وولعنا بالسنين والأعوام القادمة.

ظللنا نكافح أنفسنا مابين رغبة الإنجاز و رغبة الحياة، وما بين مشاعر التوقي والحذر، ومشاعر حب المغامرة، ومابين التلذذ بمتعة الفوز و التقزز من الخيبة والآلام.

صراع حاد يُشن دونما أن نعيه او نلحظه حتى في كل بداية عام، ونحن نتأمل أخبار الناجحين وخطط عامنا السابق و أهدافنا المتعثرة على الورق، وجداول التقويم ومخططات المهام المعلقة على حائطنا،إنها معارك عميقة و ضارية، تكوي قلوبنا وتحرقنا حتى الإدماع، فنختار أن ندس كل أفكارنا في وسادة الامبالاة ونأخذ أنفاس عميقة ثم نلتحف بالنوم الهادئ لنهرب من الأختيار وإجابة التساؤلِ ألمُحيِّرِ: هل نَظهر لهذا العام ونصادقه، ونشاركه أحلامنا، ونُحمِله مسؤولية تحقيقها؟أم نخبو وندس ماعندنا من أحلام ورغبات ونواريها في صندوق النفس ونحميها؟، وفي حال كانت إرادتنا قوية ورغبنا بإتخاذ القرار، سنكون على حذر شديد، حيث سنقعد في كرسي المراقب والمتصيد لهذا العام، مراقبين المخاطر وصيادين متحينين للفرص التي قد تتاح لنا فيه او منه،

تلك الفرص التي ربما تواتي أحلامنا على حين غرة، فتنقذها من بئر الخيبة وغدر الأعوام، أنها كالسيارة التي أدلت بدلوها في جُبِ يوسف لتنقذه من الخيبة والغدر.

كل هذه الأحداث والمعارك والزفرات تحدث فقط لأننا لم نتخلص من خوفنا من الخسارة والتعلق بأهدافنا ، ومن ذكرياتنا المهينة؛ التي خلفتها فينا التجارب فخلقت معها “Paradigm “(منظور أو مقياس ذاتي لمدى ثقتنا بأنفسنا والعالم والأعوام من حولنا) ، وكذلك منظورنا ورآينا ومعتقداتنا في معاني الحياة وثنائياتها المزدوجة من الفرح أو الحزن والإنجاز والخيبة او النجاح والفشل، و الفوز أو الخسارة، فمعظمنا ان لم يكن الجميع في كل بداية عام يتحفز ويعْقِدُ النوايا الحسنة مع أهدافه ويجهز سلم النجاح الخاص به، سواء بخطة او نقاط مدونة ضمن جدول الأولويات ، ويعزم أمره ويبدأ بكل استبشار وبهجة باستقبال الأحلام ، ولكن ما أن تواجهنا صعوبات في صعود سلم النجاح؛ الذي رسمناه وخططناه بمقاييسنا، سيعترينا بعدها الغضب والبؤس وربما إطلاق التُهم واللوم على كاهل الأعوام والحظوظ البائسة، التي تعادينا عمدا وتغلق باب النجاح أمام سلالمنا، ولكن ماذا لو كان سلم نجاحك مسند على حائط ليس لك؟! والباب الذي ترغب بولوجه هو لبيت ليس لك ولا يتسع لك ولا يليق بحلمك!

وانت لازلت تتبرم غضبا وتُصر على الوقوف وشتم ذلك الباب، بدلا من ان تحمل سلمك لموقع آخر يناسبه!.وبعد هذا اللوم والصراع نتخذ قرار نفسي غير واعي، ونُنصب الانفعالات الواقية كحارس حامي لأحلامنا وأهدافنا ومشاعرنا، فتقيها من الظهور على لوح التخطيط أو قائمة مهام الأيام والأعوام، فنتصرف بعدائية شديدة تجاه أهدافنا الساقطة، ونتعامل معها كمعاق أو مشوه حُرم الظهور للعيان، ندسها ونواريها عن العيون، ونبطش بكل ما يذكرنا بها أو يحاول إخراجها من باطننا، ولو تبصرنا أو تعقلنا حقيقة أنفسنا كما أمرنا خالقنا، في قوله تعال:(أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّا نَسُوقُ ٱلۡمَاۤءَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡجُرُزِ فَنُخۡرِجُ بِهِۦ زَرۡعࣰا تَأۡكُلُ مِنۡهُ أَنۡعَـٰمُهُمۡ وَأَنفُسُهُمۡۚ أَفَلَا یُبۡصِرُونَ)[سورة السجدة 27] لوجدنا أن عناصر النجاح والفوز والفرح والتمكين هي من أنفسنا، وسنجد أيضا أن الخسارة والبؤس والألم هي ضمن ازدواجية أنفسنا، وأن انفعالاتنا الوقائية وجدت لتقينا من ازدواجيتنا بالداخل ولتحمي أحلامنا منا نحن، ومن عشوائية الشعور والمزاج َوتضارب الأفكار، ومن مقياسنا الاواعي المغلف بالعدائية تجاه توقعاتنا وإنجازاتنا.

وربما لو تبصرنا حقا كما دعانا خالقنا لذلك، لأدركنا حقا سبب أزماتنا، وانها تكمن في مقاييسنا الظالمة لأنفسنا وليست في الحظوظ والاعوام، فمقاييس النجاح تختلف، ليس من شخص إلى آخر، بل على صعيد كل هدف أو شعور ورغبة توضع أو تصنع بأنفسنا.

فلتكن على علم يا صديقي أن المقاييس التي تفرضها على نجاحك وتحقيقه، قد لا تكون صحيحة أو عادلة كما يريك إياها Paradigm شخصيتك، فنحن من وضعنا الأسس وبنينا المقياس لتحقيق الذات بناء على انفعالات وقناعات وغايات، وكل هذه لا تنتهي ولا تقف أبداً طالما أننا أحياء، فالغايات تتجدد دائماً، والقناعات تختلف وتتطور، وحتى الأحلام تتغير، فأنت الآن تختلف عن بضعة سنين، فتجربتك الإنسانية مليئة بالاختلاف والازدواج والتباين، فنحن ما نفكر به كما قال ديكارت”أنت تفكر إذا أنت موجود”، ولكن هل نملك نفس التفكير دائماً؟ فماذا نتوقع من هذا العام؟

إذا كان جم ما تعلمناه من أعوامنا الماضية هو الانتظار! ، سنظل ننتظر فحسب، وإن كان ما تعلمناه هو العدائية والهروب من كل الأهداف والخطط، فسنظل كذلك مع توالي وتترا الأعوام لأننا نتعامل مع الحياة من خلال باردايم مزيف ولا واعي ولاتمت للواقع او الحياة برابط حقيقة.

عندما تُدرِك حقيقة الحياة و السنين والأعوام، سَتدرِك أننا نحن من وهبنا تلك السنين والأعوام الحياة، وأنها هي من تنتظرنا وتتوقع منا ليس نحن من ننتظرها! “فأنت الحياة، والحدث والذكرى، والإضافة لكل الأعوام” .فلا يليق بك أن تقف في موقف المتطير بعام والمستبشر بآخر، ولا المحلل أو الحكم والقاضي فيها، فعامك هذا هو جزئك وبعضك وجزائك بكل ما حصدته في نفسك، من باردايم فكر وشعور وسلوك لأعمال ومهام الحياة، يقول الحسن البصري رحمه الله: يا بن آدم إنما أنت أيام، كلما مضى يوم مضى بعضك.

فعود نفسك وتأهب لوليدك الجديد من الأعوام، واخلع له نظارتك المعتمة واستبدلها بأخرى صافية غير مشوشة ، وأبصره بنظرة المتأمل الواعي، ثم قل له: مرحبا بابنِ البار من السنين والأعوام. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شارك هذه الصفحة من خلال وسائل التواصل الإجتماعي.

نشرتنا البريدية توافيك بكل جديد لدينا.